سيرة أسرةٍ اصطفاها الله… ودروسٌ خالدة للأمة
في القرآن الكريم، تبرز أسرة آل عمران كنموذجٍ مضيءٍ للأسرة المؤمنة التي جمعت بين الإيمان العميق، والطاعة الكاملة، والتسليم لقضاء الله.
يقول تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 33]
سورة آل عمران هي السورة الثالثة في ترتيب المصحف الشريف، وعدد آياتها مائتان، نزلت بالمدينة المنوّرة على مراحل، وتناولت موضوعاتٍ عقائدية كبرى، منها الحوار مع النصارى في نجران، وتثبيت المؤمنين في أوقات الشدائد، خصوصًا بعد معركة أُحد.
إنها سورة تجمع بين العقيدة والتربية والوجدان، وتخاطب المسلمين وأهل الكتاب، داعيةً إلى وحدة الكلمة على أساس التوحيد والإيمان الحق.
امرأة عمران وابنتها مريم
لم يذكر القرآن الكريم اسمَ زوجةِ عمران صراحةً، بل سماها ﴿امرأةَ عِمْرَانَ﴾.
وقد ورد في كتب التفسير أنّ اسمها حنّة بنت فاقوذ، وكانت امرأةً صالحةً كثيرة الدعاء، ترجُو من الله ولدًا تُكرّسه لعبادته وخدمة بيته.
قالت في دعائها الخاشع:
﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾ [آل عمران: 35]
لكنّ الله جلّ وعلا رزقها أنثى طاهرة مباركة هي مريم عليها السلام، فقبلت ما وهبها الله، ورضيت بقضائه، فكانت البركة ممتدةً من رحمها إلى كلّ الأجيال.
ويروي بعض المفسرين أن عِمران — زوجها — توفّي قبل ولادة مريم بشهر واحد، فكانت أمّها حَنّة تربيها في كنف الإيمان واليقين.
مريم بنت عمران… الطهر الذي أضاء التاريخ
مريم عليها السلام هي المرأة الوحيدة التي ذُكرت باسمها في القرآن الكريم، وهو شرفٌ عظيم لم تنله غيرها.
وقد رفعها الله إلى أعلى المقامات، فقال:
﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 42]
عاشت مريم في المحراب، تعبُد الله ليلاً ونهارًا، فكانت مثالًا للعفّة والعبادة والإخلاص.
وحين ابتُليت بحمل عيسى عليه السلام دون زواج، صبرت ولم تدافع عن نفسها، بل قالت بلسان الحال:
﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ — فكان الطفلُ المعجزة الذي تكلّم في المهد وأظهر براءتها.
قال النبي ﷺ:
«خير نساء العالمين: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون.» (متفق عليه)
إنها قدوة للمرأة المسلمة في الطهر، والثقة بالله، والثبات أمام الابتلاء.
لماذا سورة آل عمران من أعظم سور القرآن؟
أطلق النبي ﷺ على سورتي البقرة وآل عمران اسم الزَّهْراوين، وقال إنهما تأتيان يوم القيامة تُحاجَّان عن أصحابهما (رواه مسلم).
وتبرز أهمية سورة آل عمران في عدّة محاور أساسية:
- بيان قيمة الأسرة المؤمنة من خلال نموذج آل عمران، وأن الشرف في التقوى لا في النسب.
- تثبيت العقيدة الصحيحة وردّ الشبهات حول عيسى عليه السلام وألوهيته المزعومة.
- تربية النفس المؤمنة على الصبر في مواجهة الابتلاءات، كما في غزوة أُحد.
- التأكيد على وحدة المصدر الإلهي للرسل جميعًا، وأن الدين عند الله الإسلام.
- الدعوة إلى الحوار الراقي مع أهل الكتاب بالحكمة والموعظة الحسنة.
دروس وعِبَر من آل عمران
1. الإخلاص في النيّة
حين نذرت حنّة ما في بطنها قبل أن تعرف جنسه، علّمتنا أن النية الخالصة لله هي أصل القَبول.
2. التسليم لحكمة الله
تمنّت ابنًا فوهبها الله بنتًا، فقبلت الرزق برضا، فكانت سببًا في ميلاد نبيٍّ عظيم.
3. الطهر والعبادة طريق المجد
لم تكن مريم ملكةً ولا ذات جاه، لكنها بلغت الرفعة بصفاء قلبها وصدق عبادتها.
4. الصبر في مواجهة الأذى
تعرضت مريم للاتهام، لكنها تركت الدفاع عنها لله، فتكلم ابنها دفاعًا عنها بآيةٍ خالدة.
5. أدب الحوار مع المخالفين
السورة تضع منهجًا حضاريًا في الحوار: وضوحٌ في العقيدة، واحترامٌ للطرف الآخر، وحجةٌ بالحكمة.
6. الإيمان زمن الشدائد
أحداث بدر وأُحد التي تناولتها السورة تذكّرنا بأن الإيمان يُختبر تحت الضغط، وأن النصر لا يكون إلا مع الصبر.
آل عمران… أسرة تُلهم الأسرة العربية اليوم
مكانة الأسرة: ليست الكرامة في المال أو النسب، بل في الإخلاص لله والقيام بالحق.
قدوة في التربية: نرى في آل عمران نموذج الأسرة التي تربّي أبناءها على العبادة والعلم والحياء.
دور المرأة: تبدأ نهضة الأجيال من أمٍّ مؤمنةٍ مثل حنّة، تبذر في أولادها حبّ الله قبل كلّ شيء.
تأملات روحية عميقة
- بين آل إبراهيم وآل عمران: كلاهما أسرتان اصطفاهما الله، جمعتهما العقيدة، والابتلاء، والرسالة.
- في مدرسة الابتلاء: يُمَحَّص المؤمنون بالشدائد؛ ليزدادوا نقاءً وثباتًا.
- في فقه المرأة الصالحة: يُعلّمنا الله أن صلاح الأمم يبدأ من قلب أمٍّ مؤمنةٍ صادقة.
ختامًا
إذا أثارت هذه القصة في قلبك الشوق لتدبّر القرآن وتذوق معانيه، فـشبكة اقرأ تدعوك للانضمام إلى دورات حفظ وتفسير القرآن الكريم، حيث نتعلّم كيف نعيش القرآن لا نحفظه فقط.
فلتكن سورة آل عمران نورًا يرافقك في دنياك، وشفيعةً لك في آخرتك.
اللهم اجعلنا من الذين قال فيهم رسولك ﷺ: «أهلُ القرآنِ هم أهلُ اللهِ وخاصتُه.»